مقالات وكتاب
مجلس الشورى 1921.. كيف بدأ وإلى أين انتهى؟
بقلم: علي حسين العوضي
لم تحظَ تجربة مجلس الشورى في الكويت لعام 1921 بدراسات تاريخية مستفيضة، على الرغم من أهميتها الكبرى في التاريخ السياسي المعاصر في الكويت، من حيث دلالتها الأكيدة على وجود اتجاهات شعبية للمشاركة في الحكم واتخاذ القرار، عندما أخذ نمط الانفراد بالسلطة يشق طريقه.
هذه التجربة، أو «الحركة الإصلاحية»، كما أطلق البعض عليها، وإن كنا لا نتفق مع هذا الوصف، لعدم دقته، أحاطتها العديد من الظروف والمؤثرات الداخلية والخارجية، أفضت في نهاية المطاف، وفق توازنات اجتماعية محددة، إلى الصيغة «المشوّهة» التي خرجت عليها، فتوقفت مسيرتها مبكراً، وحالفها الفشل السريع والذريع.
قام الحُكم في الكويت على نظام مبسط غير معقد للشورى واتخاذ القرار، وهو ما اتضح في اختيار الكويتيين للشيخ صباح الأول حاكماً لهم عام 1752، فأتاح هذا النظام له استطلاع رأي العامة، خصوصاً وجهاء البلد وتجارها، في مختلف المسائل والقضايا التي مرَّت بها البلاد.
وفي ظل مجتمع صغير، لم تتوسع علاقاته أو تتشابك، جمع الحاكم بين يديه السلطتين التنفيذية والقضائية.. أما في ما يتعلق بالسلطة التشريعية، فلم يكن لها أثر واضح، باعتبار أن العرف والشريعة الإسلامية هما المصدران الوحيدان للتشريع حينها، لذلك يمكن إطلاق تعبير «نظام الحكم المشترك»، كتوصيف لطبيعة النظام السياسي والاجتماعي العام، حيث خضع اختيار الحكام وتثبيت شرعيتهم إلى نوع من الموافقة المجتمعية والإجماع الشعبي.
يُضاف إلى ذلك، اعتماد المجتمع الكويتي على نشاط اقتصادي ونمط إنتاجي مرتبط بصورة مباشرة بالبحر، حيث كان النشاط الأساسي هو الغوص على اللؤلؤ، وما دار في محيطه من أعمال، كالبحارة ومُلاك السفن وتجار اللؤلؤ وبناة السفن وتكوينات اجتماعية ارتبطت بها، وأدى ذلك إلى بروز دور فئتين، هما: تجار اللؤلؤ ومُلاك السفن، فزاد نفوذهما السياسي، لما يملكان من قوة اقتصادية تقدم الدعم المالي للحاكم ومؤسسته السياسية التقليدية البسيطة، ما جعلهما، ونقصد الحاكم والفئة التجارية، شريكين أساسيين في الإدارة.
استمر هذا النمط سائداً، «الصباح يحكمون والأهالي يستشارون في كل صغيرة وكبيرة، ولم تكن هناك تعقيدات أو صعوبات»، إلى أن تولى الشيخ مبارك الصباح الإمارة في مايو 1896.
تفرَّد الشيخ مبارك الصباح بانتهاج سياسات من دون أي استشارة، واستقل برأيه عن الناس ، كما عقد اتفاقية الحماية مع بريطانيا عام 1899، تثبيتاً لنظام الحكم، وضماناً لاستقلال البلاد وحماية لحدودها، فقد اعتبر البريطانيون أن الكويت في ظل هذه الاتفاقية دولة محمية، مع الاعتراف بوضعيتها شبه المستقلة، ثم أمر بزيادة الضرائب، ومنع الذهاب إلى الغوص في أحد المواسم، لتأمين توفير المال والجنود للمعارك الحربية، التي خاضها في فترة حكمه، وفق تحالفات فرضتها تطورات الأوضاع، كمعركة «الصريف» في 7 مارس 1901، و«جو لبن» في 18 أبريل 1903، و«هدية» في 16 مارس 1910، فقد كان له طموح كبير لفرض سيطرته وقوته على المنطقة، وكان «يعدّ نفسه والكويتيين لأمر أعظم وأكبر حالت المقادير دون الوصول إليه».
ولّدت هذه الاتجاهات معارضة شعبية، فبدأت هجرة بعض المثقفين والسياسيين بعد توقيع اتفاقية الحماية، وشهد عام 1910 هجرة تجار اللؤلؤ، والمجاهرة بالعداء للإنكليز، إلا أن الحاكم تراجع عن موقفه، بعدما أدرك خطأ قراره وعدم صحته، فبعث بابنه الشيخ سالم إلى التجار المهاجرين، طالباً منهم العودة، ومقدماً لهم اعتذاره.
بعد وفاة الشيخ مبارك الصباح في 28 نوفمبر 1915، أتى بعده الشيخ جابر المبارك، الذي لم تستمر فترة حكمه سوى سنة وشهرين، ليخلفه أخوه الشيخ سالم المبارك، الذي حكم الكويت خلال الفترة من 5 فبراير 1917 إلى 22 فبراير 1921، وخاضت الكويت في عهده معركتي «حمض» في مايو 1920، و«الجهراء» في أكتوبر 1920، لصد هجوم «الإخوان»، وكانت هذه المعارك ذات إطار دفاعي، للحفاظ على كيان البلد ووجوده.
الفكرة والعريضة
في هذه الفترة، كان الوطن العربي مسرحاً للثورات الإصلاحية التي تأثر الكويتيون بها، ومن أهمها الثورة العربية الكبري (1918-1916)، التي قادها الشريف حسين ضد الدولة العثمانية، ثم الحركة الاحتجاجية الشعبية في مصر
(1922-1919)، التي عرفت بثورة سعد زغلول، وثورة 1920 في العراق، والحركة الإصلاحية في البحرين 1921 وغيرها، وكانت هذه الثورات والحركات والاحتجاجات موجهة أساساً ضد سلطات الاحتلال البريطاني، ومطالبة بالمشاركة الشعبية.
أما في الكويت، فقد تنامى الوعي السياسي، نتيجة انعكاس المؤثرات الخارجية، وانتشار فكرة القومية، إضافة إلى سوء الإدارة وبروز الخلافات بين أفراد الأسرة الحاكمة، فأصبحت الحاجة ملحة لإجراء نوع من التغيير الجذري في طبيعة النظام الموجود، من خلال تحقيق مشاركة شعبية توفر الاستقرار وتمنع التفرد بالحكم، فأخذت بعض الفئات الاجتماعية المتنفذة التي كوَّنت لها ثروة مقبولة من التجارة والغوص على اللؤلؤ على عاتقها البحث عن مبادرة.
ففي مطلع عام 1921 بدأ بعض التجار بتداول فكرة يتم طرحها على الشيخ سالم المبارك، وهي قيام مجلس يتألف من 6 شخصيات بارزة، من بينهم الشيخ أحمد الجابر، للعمل كمستشارين دائمين له.
لم تتح وفاة الشيخ سالم المجال لمناقشة ذلك المقترح وتنفيذه، فاجتمع عدد من وجهاء البلد في ديوان الحاج ناصر البدر، لدراسة تطورات الوضع السياسي الجديد، و«تعاهدوا على الاتحاد واتفاق الكلمة، وأن يسعوا إلى صلاح البلاد»، وأثمر الاجتماع عن وثيقة تقرر تسليمها للشيخ أحمد الجابر، حال عودته إلى الكويت، وقبل تسلمه الحكم، وكان الهدف من ورائها، اتباع مبدأ الشورى في اختيار الأمير من بين أفراد الأسرة الحاكمة.
العريضة الأولى
وتكشف المصادر عن وجود عريضتين شبه متطابقتين في محتواهما وبنودهما ومطالبهما؛ الأولى هي المتعارف عليها والمنشورة في كتاب «من تاريخ الكويت» للمؤرخ سيف مرزوق الشملان، ووقع عليها 8 من رجالات الكويت، في ما يلي نصها:
«بسم الله.. نحن الواضعين أسماءنا بهذه الورقة، قد اتفقنا واتخذنا على عهد الله وميثاقه بإجراء هذه البنود الآتية:
أولاً: إصلاح بيت الصباح، كي لا يجري بينهم خلاف في تعيين الحاكم.
ثانياً: إن المرشحين لهذا الأمر هم: الشيخ أحمد الجابر والشيخ حمد المبارك والشيخ عبدالله السالم.
ثالثاً: إذا اتفق رأي الجماعة على تعيين شخص من الثلاثة، يرفع الأمر إلى الحكومة للتصديق عليه.
رابعاً: المعين المذكور يكون بصفته رئيس مجلس الشورى.
خامساً: ينتخب من آل الصباح والأهالي عدد معلوم لإدارة شؤون البلاد على أساس العدل والإنصاف.
محمد شملان، مبارك بن محمد بورسلي، جاسم بن محمد بن أحمد، عبدالرحمن بن حسين العسعوسي، صالح بن أحمد النهام، عبدالله بن زايد، سالم بن علي بوقماز، ناصر بن إبراهيم».
العريضة الثانية
أما الثانية، فهي التي أعلن عنها في السنوات الأخيرة د.خليفة الوقيان في كتابه «الثقافة في الكويت بواكير- اتجاهات- ريادات» للمرة الأولى، وحملت توقيع 24 من رجالات الكويت، وجاء نصها:
«بسم الله..نحن الواضعين أسماءنا بذيل هذه الورقة، قد اتفقنا واتحدنا على عهد الله وميثاقه على هذه البنود الآتية:
أولاً: إصلاح بيت الصباح، كي لا يجري بينهم خلاف في تعيين الحاكم.
ثانياً: إن المرشحين لهذا الأمر هم: الشيخ أحمد الجابر والشيخ حمد المبارك والشيخ عبدالله السالم.
ثالثاً: إن ارتضت عائلة الصباح على تعيين واحد من الثلاثة فبها ونعمت، وإن فوضوا الأمر للأهالي عيناه، وإن أرادت الحكومة تعيين واحد منهم رضينا به.
رابعاً: المعين لهذا الأمر يكون بصفته رئيس مجلس شورى.
خامساً: ينتخب من آل الصباح والأهالي عدد معلوم لإدارة شؤون البلاد على أساس العدل والإنصاف.
حرر في 15 جمادى الآخر سنة 1339
ناصر يوسف البدر، حمد عبدالله الصقر، إبراهيم بن مضف، أحمد الحميضي، أحمد الفهد الخالد، عثمان الراشد، خالد المخلد، محمد شملان، محمد الزاحم، عبدالرحمن محمد البحر، مبارك الساير، سلطان البراهيم الكليب، عبدالله السميط، فهد العبداللطيف الفوزان، عبدالمحسن الصبيح، فلاح الخرافي، علي بن إبراهيم الكليب، يوسف بن عيسى، عبداللطيف الحمد، يوسف الرشيد، حمد السميط، مسعود بن مشحن الرشيدي، عبيدان المحمد، محمد بن إبراهيم القلاف».
من اللافت، التطابق شبه الكامل بين العريضتين، وهو ما يشير إلى توافق تام بين العديد من الأطراف، التي طالبت بوجود نوع محدد من المشاركة، كما تكرر اسم محمد شملان فيهما، وقد يشير ذلك إلى أنه كان عنصر الربط وحلقة الوصل بين المجموعتين، من دون أن نجزم بذلك.
اجتماع موسع
أدَّت هذه المطالبات إلى اجتماع عدد من أعيان الكويت ووجهائها، يتقدمهم يوسف بن عيسى القناعي، عُقد لاحقاً مع أفراد الأسرة الحاكمة، الذين تقدمهم الشيخ عبدالله السالم، الذي كان يدير البلد خلال هذه الفترة، إلى حين عودة الشيخ أحمد الجابر، فأكدوا أهمية أن يكون لهم دور وكلمة في إدارة شؤون البلاد، وأنهم لن يقبلوا إلا بحاكم يقبل بإنشاء ووجود مجلس يشاركون به، حتى لا تجر الكويت في أتون حروب لا تريدها، كما حدث في الماضي، ولقي هذا الاتجاه ترحيباً واسعاً وتفهماً للبواعث التي دفعت الكويتيين لتقديم هذه العريضة.
ومع عودة الشيخ أحمد الجابر إلى البلاد، تقرر إرسال وفد ليقابله في «اليخت التجاري» الراسي على السواحل الكويتية، قبل أن ينزل على البر، لعرض المطالب.. ووفق ما ذُكر في «مذكرات خالد سليمان العدساني»، فإن الحاشية سارعت إلى الالتقاء بالشيخ أحمد الجابر، لإطلاعه على ما اتفق عليه الكويتيون، مقترحين عليه الموافقة عليها، مؤكدين له أن الخلافات «ستدب» بين الكويتيين!
إنشاء المجلس
تطبيقاً لنص البند الخامس من الوثيقتين، تم إنشاء وتكوين أول مجلس شورى في الكويت، وذلك في يونيو 1921، الذي تحدد بـ 12 عضواً، نصفهم يمثلون منطقة «شرق»، والنصف الآخر منطقة «جبلة»، وهم: حمد عبدالله الصقر (رئيساً)، يوسف بن عيسى القناعي (نائباً للرئيس)، والأعضاء هم: عبدالعزيز الرشيد، حمد فهد الخالد، عبدالرحمن النقيب، خليفة شاهين الغانم، هلال المطيري، شملان بن علي بن سيف، مرزوق داود البدر، أحمد الحميضي، إبراهيم المضف ومشعان الخضير، ومن هنا جاء المجلس بأعضائه محصلة لمطالب النخبة التجارية.
ويلاحظ هنا في طريقة تشكيله، أنه جاء بالتعيين، وليس بالانتخاب، كما أن كل أعضائه من أعيان البلد و«أهل الثراء»، وليس من بينهم أي فرد من عائلة الصباح، وهو ما يخالف ما احتوته العريضتان من ضرورة عملية انتخاب أعضائه، كما أن طبيعة عمله التنظيمية اقتصرت على تقديم الرأي والمشورة للحاكم في المسائل التي يعرضها عليه، وهي غير ملزمة بالنسبة له، في حين تولى حمد الصقر رئاسة المجلس، وهو مخالف لما جاء في البند الرابع الذي أشار إلى أن الحاكم يكون رئيساً للمجلس.
تشير العديد من المصادر إلى أن الشيخ أحمد الجابر تولى الإمارة قبل تعيين أعضاء مجلس الشورى، في حين أن كتاب «تاريخ الكويت السياسي» لحسين خلف الشيخ خزعل، أشار إلى أن مجلس الشورى بدأ اجتماعاته بمسألة تنظيم بيت الحكم، واختيار حاكم للبلاد من بين الأسماء الثلاثة، وركن المجلس إلى ترك حسم هذا القرار للمرشحين، الذين اختاروا الشيخ أحمد الجابر، فأقسم للأعضاء اليمين على الإخلاص بالعمل، وتمَّت الموافقة على ميثاق «خطي» لتنظيم أمور الكويت دونه الحاكم، في ما يلي نصه:
«هذا ما اتفق عليه حاكم الكويت الشيخ أحمد الجابر وجماعته:
أولاً: أن تكون جميع الأحكام بين الرعية في المعاملات والجنايات على حكم الشرع الحنيف.
ثانياً: إذا ادعى المحكوم عليه أن الحكم مخالف للشرع، تكتب قضية المدعي والمدعى عليه، ويحكم القاضي فيها، وترفع إلى علماء الإسلام في ما اتفقوا عليه، فهو الحكم المتبع.
ثالثاً: إذا رضي الخصمان على أي شخص أن يصلح بينهما، فالصلح خير، لأنه من المسائل المقررة شرعاً.
رابعاً: المشاورة في الأمور الداخلية والخارجية التي لها علاقة بالبلد، من جلب مصلحة أو دفع مفسدة أو حُسن نظام.
خامساً: كل مَن عنده رأي فيه صلاح ديني أو دنيوي للوطن وأهله يعرضه على الحاكم يشاور فيه جماعته، فإن رأوه حسناً ينفذ».
ومن الواضح أن هذا الميثاق، الذي وضعه الشيخ أحمد الجابر، هدف إلى إيجاد الأساس الذي تحكم بموجبه علاقات الأفراد، وهو أن تجري المعاملات وفقاً لأحكام الشريعة الإسلامية دون سواها، ما يعني استبعاد تطبيق القواعد العرفية التي سارت عليها البلاد في معاملاتها، إذا ما ثبت تعارضها مع أحكام الشريعة الإسلامية، وتأكيداً على هذا المعنى وجدت درجة للتقاضي سمحت لأحد طرفي الدعوى استئناف الحكم إذا ما اعترته مخالفة لأحكام الشرع.
كما يلاحظ أن هذا الميثاق ألزم الحاكم بمشورة المجلس في أمور البلاد الداخلية والخارجية، بل سمح لكل فرد أن يُدلي برأيه لدى الحاكم إذا كانت فيه مصلحة عامة، على أن يعرض الحاكم هذا الرأي على المجلس، ليتخذ قراره، إلا أن المجلس لم يكن سوى سلطة استشارية بحتة، من دون أن يتمتع بسلطات تشريعية، فقد كان يعاون الحاكم عن طريق إبداء الرأي والنصح في المسائل التي يعرضها عليه، إذ يمكننا القول إن الحاكم كان ملزماً بعرض الأمور المتعلقة بالقضايا الداخلية والخارجية التي تهم البلاد، ولكنه بعد ذلك غير ملزم قانوناً بما ينتهي إليه المجلس من رأي، إذ يحق للأمير أن يأخذ به أو يتركه.
حاول المجلس إصلاح وضع القضاء والمسائل الحقوقية والشرعية، وهو ما وضح في الجلسة الثالثة، حيث تقرر إحالة منصب القضاء إلى عهدة «قاضي شرع»، اشتهر بالعدل والنزاهة والاستقامة، على أن تتم تنحية القاضي السابق وتولية الشيخ أحمد الفارسي، وتم إبلاغ الحاكم بهذا القرار لتنفيذه.
وفي الجلسة الرابعة، عرض الحاكم على الأعضاء اتصالاته ومفاوضاته مع الشيخ الفارسي، الذي اعتذر عن القبول، قائلا: «إني لست بأحسن حال ولا سيرة، ولا أكثر علماً من قاضيكم الحالي، فاعذروني من هذا الأمر»، وهو ما اضطر المجلس إلى إبقاء القاضي في منصبه، كما قرر المجلس انتخاب عدد من أفراد آل الصباح ومن أعيان الكويت، لإصلاح البلد وإدارة شؤونه ومراقبة الأحكام الشرعية.
خلافات
واصل المجلس عقد اجتماعاته، إلا أن المحصلة النهائية للأداء والنتائج ضعيفة وغير مشجعة، فزادت وارتفعت وتيرة الخلافات الشخصية بين أعضائه، وكذلك عدم الاحترام لمبدأ أو قاعدة «الأغلبية» في التصويت، وتفرغوا لمطالبهم الخاصة.
ومثال على هذه الخلافات، تدخل عبدالرحمن النقيب في أمور خارجة عن صلاحيات المجلس، فاعتبر آل الصباح أن ذلك إجحافاً بحقوقهم ومخلاً لكيانهم، فتم تهديد النقيب بإجراءات مضرة به، إن لم يتوقف عن هذا السلوك، فنتج عنه فتور بالحضور بين الأعضاء، الذين أخذوا يرسلون أولادهم بدلاً منهم، ثم حدث خلاف و«شجار» بين أحمد الخالد ومشعان الخضير، فانقطع الأول عن الحضور، بإرسال مندوب عنه، كما انتشر السب والشتم في قاعة المجلس، ما حدا بأحد أعضائه، وهو إبراهيم المضف، للاعتراض على ما يحدث، فعدّه مخالفاً للآداب والأعراف.
كما ظهر عدم اهتمام الأعضاء بحضور الجلسات، التي أخذت بالانحسار والتقلص مع مرور الوقت إلى أن تعذر قيامها والدعوة إليها، وعلى إثر ذلك انقطع الشيخ أحمد الجابر عن الحضور، في حين أخذت هذه الأخبار تنتشر في الأوساط العامة، وبدأت الثقة في المجلس تقل وتهتز.
الرسالة!
أما الضربة، التي قصمت ظهر المجلس، فتكمن في رسالة وصلت إلى المعتمد السياسي البريطاني الميجور مور، على أنها كانت مقدمة من أحد أعضاء المجلس، تتهم المجلس بالجهل، فقام بدوره بتسليمها للحاكم، وقد حملت توقيع «الأمة»، حيث رفض أصحابها أن يكون المجلس ممثلاً لهم، أو أن يكونوا مسؤولين عن تبعات القرارات التي تصدر عنه، وجاء في الرسالة «إننا نبرأ إلى الله من هذا المجلس الذي جمع أعضاء لم يعرفوا التمرة من الجمرة، ولم ينتخبوا من قِبل الأمة».
رفع الشيخ أحمد الجابر الرسالة إلى المجلس، فجرى استعراضها في جلسة عاصفة أثارت جدلاً حاداً بين الأعضاء، وتبادلاً للاتهامات حول قيام «أحدهم» بكتابتها، فتم اتهام الشيخ عبدالعزيز الرشيد، إلا أن الشيخ يوسف بن عيسى القناعي، الذي كان على معرفة ودراية بـ «خطوط» الكويتيين، نفى هذا الاتهام، مؤكداً براءة الرشيد منها، في حين أنه لم يعلن في ذلك الوقت لأعضاء المجلس عن كاتب الرسالة وصاحبها الذي عُرف لاحقاً بأنه هو السيد هاشم الرفاعي، وبدلاً من أن يقوم الأعضاء بمواجهة الكتاب والعمل على تلافي السلبيات ودراسة الأخطاء والتركيز على الجوانب «النافعة»، أخذ الفتور والكسل يعتريهم شيئاً فشيئاً.
لم يكترث الحاكم لما أحدثته هذه الرسالة من ضجة واستياء لدى الأعضاء، فقد استحسن ما حملته به من انتقاد، وأدَّت هذه الظروف وتطوراتها إلى أن يحل المجلس نفسه تلقائياً في أغسطس 1921، قبل أن يمضي على تأسيسه شهران.
كلمة أخيرة
يقول الشيخ عبدالعزيز الرشيد في كتابه «تاريخ الكويت» حول مجلس الشورى: «المؤسف المحزن أن هذا المخلوق الصغير كان قصير العمر جداً، فإنه ما كاد يحبو حتى زهقت روحه وألحد في قبره، وقد تضاربت الأقوال فيمن هو الملوم على إحباط هذا المشروع، ومَن الذي تلقى عليه المسؤولية في إخفاقه.. أما أنا وقد كنت واحداً من أهل ذلك المجلس، فإني أنزه سمو الأمير عن المسؤولية».
أما الواقع الفعلي، فلم يملك مجلس الشورى الكويتي أي سلطات تشريعية تمكنه من فرض نفسه على الواقع السياسي الكويتي، فكان أقرب إلى «مجلس للأعيان»، إلا أنه في المقابل أوجد نوعاً من المشاركة الشعبية في شؤون الحكم، فللمرة الأولى في تاريخ الكويت تشارك لجنة من الكويتيين في وضع أحكام وثيقة دستورية تنظم شؤون البلاد، وللمرة الأولى في تاريخ الكويت يشكل الكويتيون مجلساً استشارياً يعاون الحاكم في إدارة شؤون البلاد، ولا شك أن هذه الخطوة كان لها أثرها في ما بعد على مجمل الأحداث السياسية، وعلامة للبداية في التطور المؤسسي الدستوري في الكويت.
ولعل أحد أهم الأسباب الرئيسة، التي أدَّت إلى نهاية مبكرة لتجربة هذا المجلس، أن أعضاءه جاءوا عن طريق التعيين، فلم تكن هناك انتخابات حُرة منظمة تفتح المجال لعضويته مَن هم أكثر جدية وأصلح لتمثيل الشعب، والقيام بالمهمة الملقاة على عاتقهم، إذ كان أساس الاختيار هو «الوجاهة والثروة»، بغض النظر عن «الكفاءة والمقدرة»، فاستبعد العامة من المواطنين عنه، كما أهملت فئات اجتماعية من عضويته، لذلك كان أعضاؤه غير متجانسين في التوجه والفكرة والبرنامج، فانتشر الخلاف والتشاحن بينهم وتباينت مصالحهم.
وهناك ملاحظة أخرى حول مجلس الشورى، هي أنه لم يكن لديه «سكرتير عام» لتدوين ملاحظات الأعضاء أو كتابة محاضر الاجتماعات، وهو ما يعني أنه لم تكن لديه لوائح تحكم أعضاءه، ويعطي انطباعاً بعدم تبلور فكرة المجلس بإطاره وأسسه التنظيمية الصحيحة والفاعلة.
لم تتحول المطالب، التي رفعها أعيان البلد في تلك الفترة إلى حركة إصلاحية شعبية مجتمعية واسعة، بل ظلت محصورة في نطاق عريضة محددة تم رفعها للحاكم، إلا أنهم تنازلوا عن بعض البنود ذات الشكل الديمقراطي، مثل عملية الانتخاب، حيث تم الاكتفاء بالتعيين فقط، وهو ما يعني إبعاد مكونات اجتماعية أخرى عن المشاركة، ولعل لهذا الأمر ما يبرره، خصوصاً مع الفوارق الكبيرة بين فئات المجتمع، وبالذات في مسألة التعليم.
وختاماً، على الرغم من هذه الملاحظات على تجربة مجلس الشورى، فإنها تبقى واحدة من المحاولات، التي ثبّت فيها الكويتيون رؤيتهم في المشاركة في إدارة الدولة، وهو ما يتضح جلياً عندما أقر دستور الكويت في 11 نوفمبر 1962، فنصت المادة الرابعة منه على أن «الكويت إمارة وراثية في ذرية مبارك الصباح»، في حين قضت المادة السادسة منه على أن «نظام الحكم في الكويت ديمقراطي، السيادة فيه للأمة مصدر السلطات جميعاً».
المصدر: الطليعة